السجون الاجتماعية
"السجون المفتوحة عبر القصص الاجتماعية" هو عنوان كتاب
من سلسلة الكتيبات الإسلامية التي أصدرتها "دار ابن خزيمة للنشر" .. وهي
قصص مختارة تعبر عن الواقع المشرق وكذلك المظلم في التعامل بين الناس، وتصور ظلم
الإنسان لأخيه عندما ينام الضمير، أو يضعف الوازع الديني، فيطغى بما يملك من قدرات
أو إمكانيات على إخوانه الآخرين.
من بين القصص الكثيرة التي يضمها الكتاب واحدة بعنوان : من
السارق؟؟
تقول أحداثها :
هرولتُ
مسرعًا إلى مدرسة الأمانة حيث أعمل مدرسًا بها، وعيني على ساعتي؛ حيث شعرت
بالتأخير الذي يدفعني إلى استعجال الخطى والدخول مباشرة إلى الفصل لأجد تلاميذي
ينتظرونني.
بدأت
بتدريس مادتي (القواعد للغة العربية) التي أجيد تدريسها ولا أجيد تطبيقها، ورحم
الله امرءًا عرف قدر نفسه فأنزلها منازلها ...
بدأت
حصتي متنطعًا بكلمات حفظتها شارحًا للطلاب حروف العلة ومتى تذهب (الواو) للمستشفى
لتقلب (ياء) ومتى يسبق (الواو) فتحة فتتألم وتقلب (ألفًا).
ضحك
أحد التلاميذ فسألته عن سبب ضحكه، فأفاد أن مثالي الذي وضعته على السبورة ينطبق
على زميله "علي" حيث ورد في المثال كلمة (الأمين) وعندما طلبته الإيضاح
أخبرني أن زميله دخل دار الملاحظة منذ شهر حيث سرق مبلغًا من المال، لذلك فهو
ينعته استهزاء بـ "الأمين".
أخذتني
هذه الكلمات بعيدًا إلى واقع أليم عشته عندما كنت طفلاً صغيرًا وشاء الله أن آخذ
دراجة أحد جيراننا الذي أبلغ جهات الأمن فقبضت علي وعندما علم الجار بأني أنا
السارق تنازل عني مشكورًا احترامًا للجيرة.
وعندما
علم أستاذي بالمدرسة سامحه الله بالقصة أخذ يتندر بي وينعتني بـ"أبي الدراجة"
بالرغم من أنها أول مرة في حياتي تمتد يدي إلى حاجة ليست لي، ولم يكن الأمر بغرض
سرقتها بقدر ما هو بنية اللعب بها، ولم يكن لدي الإدراك الجيد والمعالجة السليمة
لأقوم مثلاً بالاستئذان من صاحبها لغرض قيادتها.
لذلك
كلما داهَمَ زملائي بالفصل النّعاس أو الخمول صرخ بهم الأستاذ مداعبًا ومجددًا لهم
نشاطهم: « لا تناموا وبيننا أبو الدراجة فربما سرقكم أو سرق ما في جيوبكم»، وكأنني
أنا أول سارق على هذا الكوكب الأرضي.
ويا
ليتني كنت كذلك ليحظى اسمي بمنزلة مرموقة في الكتب التي تعتني بالأولويات، وربما
حزت على جائزة أول سارق، وكأن أستاذي هو أطهر شخص على هذه البقعة.
ولعله
لو تذكر هو أو غيره طفولته ومراهقته وشبابه لوجد فيها ما هو مشين لأننا كلنا
معرضون للخطأ ولكن الفارق الوحيد هو الحظ العاثر الذي قادني إلى مخفر الشرطة؛
بينما سمح للكثيرين بإنهاء مشاكلهم دون وصولها لأقسام الشرطة أو دون اكتشاف أمرهم
... وما أكثرهم.
ويا
ليتنا عندما نحاسب الغير على أخطائهم نتذكر أخطائنا وضعفنا وماضينا وأننا جميعًا
بشر مثل غيرنا نخطئ ونصيب والله غفار لمن تاب وأناب؛ قال الله تعالى: }وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى { كما
أن الله عظم أجر التائبين في عدد من الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة
...
...
أنا مدرك أن الأستاذ لا يقصد الإضرار بي، أو التقليل من شأني، ولكنه قتلني دون أن
يدري، واتخذ من جنحتي مجالاً خلابًا لجذب الطلاب إلى مادته، فأكلوا النعيم على
جثتي.
والمؤلم
حقًا أنه عندما يكون أستاذك أو والدك أو شخص تحبه وتعتبره قدوتك هو الذي يقضي عليك
بمثل هذه (الأوسمة) خاصة أن عقلي صغير حيث ما زلت طفلاً، فأي كلمة من أستاذي أو من
أي شخص في عمره أو موقعه تعتبر شيئًا كبيرًا وذات تأثير فعال لكونها صفة ملازمة.
وعندما
كبرت شرحت لأستاذي تلك الواقعة عندما كنت تلميذًا في مدرسته ... ابتسم وقال: لعلك
تعذرني إذا علمت أن بعض المجتمعات التي حولنا تفوق ذنبي، فهي تمقت كل من له صلة
قرابة بالمذنب.
ثم
ذهب يطنب بشرحه من أجل أن يغطي صراحتي لأنه لا يجد الكلمات المناسبة التي تسعفه
بالاعتذار.
أدركت
ذلك من خلال وجهه ثم سايرته وقلت له : هذا صحيح ولكن هل يفهم التلاميذ الصغار ذلك؟
هل يدرك التلميذ الصغير أن زميله تاب وأصبح فعلاً أمينًا؟.
إن
سخريته من زميله توضح أن عقله صغير بحجم جسمه، ولعله يكبر فيدرك ذلك ويتفهم ما
قاله الإمام الشافعي:
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس أعين.
وعينك إن أبدت إليك معايبًا
فقل: يا عين للناس أعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق